الاعلامي قيس البيكدلي يركب المخاطر من اجل انقاذ ارشيف وثائقي عن الموصل
 واجهت مدينة الموصل غزوات وحروب وأَحصرة من مختلف الاعداء ، لكنها لم تواجه عدوا مثل تنظيم داعش الارهابي الذي اتبع منهجية خبيثة في قتل الناس ومحو تاريخ المدينة وتراثها ومعالمها الحضارية ، وهي منهجية كانت اكبر من ان تستوعبها شعوب المنطقة قبل ان ينكشف امره .  
ومثل بقية الناس كان الاعلامي ( قيس البيكدلي ) وهو من سكنة سهل نينوى من بين الشهود على وحشية تنظيم داعش الارهابي عندما اجتاح مدينة الموصل وسقطت في براثنه عام 2014 ، حيث بدات القصة عندما قرر هذا الاعلامي مراقبة الاحداث عن كثب وتوثيقها بواسطة جهاز نقال ، وقد تمكن من تصوير بعض الاحداث المهمة بعد ان موه شكله اثناء التجوال في الموصل خشية ان يكتشفه التنظيم كونه من الاعلاميين الذين ظهروا على شاشة التلفاز في وقت سابق . 
 وتحديدا في الرابع والعشرين من شهر تموز اقدم التنظيم على تفجير جامع النبي يونس وهو من مساجد العراق التاريخية ، واثار تفجير هذا المسجد الذي يحظى بمنزلة خاصة عند أهالي الموصل العديد من التساؤلات في نفس الصحفي قيس حول اهداف التنظيم وتوجهاته الفكرية التي تتنافى مع مبادئ الاسلام ، حيث تنبأ قيس بحجم الكارثة القادمة وخطورة الموقف ، مدركا ان التنظيم سيعمل تباعا على تدمير بقية المعالم التاريخية في الموصل ، فاخذ على عاتقه جمع اكبر عدد ممكن من الافلام والصور الوثائقية لتلك المعالم قبل ان يستهدفها التنظيم . 
هذه الصور والافلام التي سجلها قيس ابان سيطرة داعش على الموصل اضيفت الى ارشيفه السابق والزاخر بالوثائق الحية التي تتحدث عن تاريخ نينوى ومعالمها القديمة مثل المساجد والكنائس ومراقد الانبياء والاولياء ، بالاضافة الى توثيق جوانب عديدة من الحياة اليومية في الشارع والمهن القديمة المهددة بالانقراض وغيرها من الاعمال السائدة ، وهي مجموعة قيمة من الوثائق احتفظ بها قيس خلال عمله كصحفي منذ ٢٠٠٥ وقد ارشفها ووضعها في حقيبة خاصة بالادوات الصحفية التي احتوت على هويات وتصريحات تخوله بالتنقل في مدينة الموصل التي انعدم فيها الامن في تلك المرحلة واصبحت من المناطق الساخنة .
كان قيس مثل بقية الناس لايمتلك المعلومة عن تحركات تنظيم داعش القادمة ، لكن المعطيات على ارض الواقع جعلته شديد الحذر والترقب والاتصال بقوات البيشمركة المرابطة في مداخل سهل نينوى لمعرفة تحركات التنظيم ، لكن قلقه بدأ يزداد مع اقتراب هذا التنظيم من مناطق السهل التي صارت تحت مرمى نيرانه ، وتحسبا لاي طارئ حزم قيس بعض اغراضه المهمة وفي مقدمتها ارشيف الصور والافلام التي اعدها خلال عمله في الاعلام ووضعها في صندوق سيارته .
 في الثامن من شهر اب حدث ما كان متوقعا ، حيث اقتحم تنظيم داعش سهل نينوى ، من هنا بدات رحلة المعاناة الطويلة التي عاشها قيس مع عائلته عندما ترك منزله في سهل نينوى قاصدا محافظة ميسان ومتخذا من الحدود الايرانية مسارا له بعد ان احكم التنظيم سيطرته على بعض الطرق الرئيسة الامر الذي دفعه الى استخدام طرقات غير سالكة في غالبيتها وذلك تجنبا للوقوع في قبضة داعش والتامين على حياة عائلته . 
بعد عام ونصف من الانتظار والمعاناة في مخيمات محافظة ميسان عاد قيس الى مخيم برده رش في محافظة دهوك ليعيش مع افراد اسرته في خيمه صغيرة لا تقيهم من حرارة الصيف ولا برد الشتاء ، حيث امضى في هذا المخيم ثلاث سنوات واجه خلالها الكثير من المتاعب الناجمة عن الركود والحرمان من ممارسة الحياة الطبيعية ، لكن التطلع الى العودة الى الديار كان هو الهاجس الوحيد الذي عاش مع قيس ولم ينطفئ في نفسه حتى في اشد لحظات الياس والعجز .
 في السابع من شهر نيسان من عام ١٩١٧ تحقق ماكان يتطلع اليه قيس .. الا وهو الاعلان عن انطلاق عمليات تحرير الموصل فقرر الانخرط في صفوف قوات الحشد العشائري ، وكان من اوائل الصحفيين من سهل نينوى الذين انضموا الى جيش التحرير . ليتم تكليفه بعد ذلك بادارة قسم الاعلام الحربي في احد الاجهزة الامنية الحساسة ، فشارك في الاقتحامات وعمل مع كتيبة الهندسة في تفكيك العبوات الناسفة التي كان تنظيم داعش قد زرعها في محيط ناحية برطلة انذاك .
 بعد تحرير الموصل عاد قيس الى منزله بالقرب من ناحية بعشيقة فوجده محترقا بالكامل فيما بدت المزرعة قاحلة متيبسة ، وقد آلمه هذا المشهد .. فقام باعادة ترميم المنزل من جديد وسهر كثيرا على اعادة الحياة الى المزرعة وغرس فيها مزيدا من الشتلات والاشجار المثمرة ، وما ان انتهى من هذه الاعمال الاساسية حتى بدأ بعملية انقاذ الارشيف الصحفي من التلف الذي حمله معه خلال فترة النزوح الطويلة حيث ان الافلام تتأثر سريعا بالحرارة والرطوبة فقام بنقلها الى الحاسوب وارشفتها من جديد .
 بعد هذه الرحلة المضنية والشاقة يشعر قيس اليوم بالفخر ، لانتصاره على عاديات الزمن وحماية عائلته والمشاركة في تحرير مدينته الموصل من الارهابيين ، فضلا عن انه الصحفي الوحيد الذي انتمى الى الاجهزة الامنية خلال معارك التحرير ، وما يزيده فخرا انه استطاع انقاذ ارشيفه الصحفي من براثن داعش والذي كان يضم كما اشرنا انفا باقة مهمة من الافلام والتقارير التلفزيونية التي توثق لمعالم الموصل وتثبت هويتها ونسبها الى جهة المالك الحقيقي لها ، وذلك لضمان عدم التلاعب بتاريخها ومرجعيتها الى جماعة مذهبية او طائفة او عرق معين فتضيع الحقيقة .
يعيش قيس اليوم في سهل نينوى ، حيث منزله ومزرعته الصغيرة منخرطا في مشاغل الحياة اليومية ، ويبدو راضيا عما قدمه لوطنه واهله من تضحيات رغم انه لم ينل اي تكريم او منحة لصحفي قدم الكثير خلال عمله المحفوف بالمخاطر وعاش مجمل الاحداث الجسام التي مرت بها محافظة نينوى منذ عام 2005 وانتهاء بتحرير الموصل ، ومع ذلك مازال قيس يشعر بالغبن ازاء الاهمال المتعمد من الجهات المختصة ولكن ما يخفف من انتقاده للاوضاع هو ادراكه لحقيقة يعرفها الجميع ومفادها ان الكفاءات بالعراق مغيبة ومهمشة بصورة مقصودة .
ان تجربة قيس المهنية في العمل الصحفي مازالت تشكل حدثا مهما بالنسبة للمقربين منه ، وهي تجربة تكاد تكون متفردة في تفاصيلها واحداثها التي لايمكن الاحاطة بها في هذا المقال المقتضب ، لكنها ستبقى جديرة باهتمام الباحثين عن الحقائق في تلك المرحلة التي تعتبر الاسوأ في تاريخ مدينة الموصل واكثرها وحشية على صعيد الدمار والموت .
 تجربة قيس التي عاشها في مجال تغطية الاحداث الساخنة يمكن الاستفادة منها في الاعمال الفنية والقصص الصحفية والافلام الوثائقية للدلالة على ايمانه برسالته الاعلامية في خدمة البلاد واداء دوره الاعلامي بمهنية عالية في ظل المخاطر والظروف الصعبة ، فضلا عن انها تجربة تقدم قراءات متعددة لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية والامنية التي عاشها ابناء جلدته في ظل التحولات التي عصفت بالبلاد منذ عام 2005 ولغاية اليوم . 
نينوى بريس / رئيس التحرير / محمد الظاهر